الصورة


سميحة خريس 
قبل اختراع كاميرا الديجيتال، أو ربما كانت مخترعة، ولكنها ليست في متناول اليد في الأسواق، كنا نستخدم كاميرا كبيرة الحجم نسبياً، مزودة بفلاش يلمع أوتوماتيكياً عندما نضغط الزر في أعلاها،ولم أكن خبيرة بالتقاط الصور، حتى أني في أهم المناسبات الاجتماعية والرحلات كنت أنسى اصطحاب الكاميرا، وإذا ما جلبتها معي، نسيت استخدامها، كونها تثقل اليد والكتف طبعاً بشريطها الطويل الذي يعلق مدلياً كتلتها المربعة أفضل الذهاب إلى الاستديو لالتقاط صورة مناسبة إذا ما طلبت مني بسبب معاملة رسمية أو سفر أو استخراج بطاقة، وأتفرج بحماس على صور الصديقات والأهل التي تؤخذ بعفوية، وتبدو فيها ضحكاتهم أو تقطيبات جباههم المعتادة، وقد تختفي بعض أطرافهم وراء ظلال ما أو خلف إنارة ساطعة تأتت من التقاء نور الشمس بشعاع الفلاش الصناعي، مما يترك عتمة تشوه الصورة.

لم يحدث أن اقتنينا صورة مهمة، ولكن ذلك حدث، لا أعرف كيف تم التقاط تلك الصورة، وكيف استطاعت كاميرتنا العادية من ضبط المشهد على هذه الدرجة من الإتقان، نتوسط الصورة تماماً، الفراغات حولنا منتظمة، الإضاءة مضبوطة، التفاصيل تكاد تغادر الورق المطبوع، الطباعة غاية في الجمال، الألوان حقيقية، وابتساماتنا طبيعية غير مصطنعة، دون رهبة ولا تأهب ولا استعداد، حتى العيون ضاحكة، الحجم الذي اخترناه لطباعة الصورة مثالي، أمر تلك الصورة مذهل، بدت كما لو كانت كنزاً لا يصح رميها في ألبومنا المتواضع، وضعتها على الطاولة، كنت أعود لرؤيتها مساءً، الصديقات والأهل وكل من جلس على الأريكة انتبه لكمال الصورة، قالوا: أي كاميرا عبقرية؟؟ ضحكت، كانت لحظة التقاط الصورة استثنائية، فالكاميرا ذاتها، ونحن هم من نحن..
نبهته إلى عدم وضع منفضة سجائره على الطاولة، لكنه قال ضعيها في المكان الذي ترغبين، هززت رأسي، كنت منشغلة بتنسيق الأزهار حين انتبهت إلى أن جمرة سيجارته المتوهجة التقطت طرف الصورة ولونت ورقها الصقيل اللامع بلطخة بنية صغيرة، فزعت، قفزت ملهوفة، حاولت مسح البقعة فلم أفلح.. لمت نفسي لأني تركت الصورة دون إطار على الطاولة، قال: أطّريها. بحثت في الأسواق عن برواز يليق، لم تعجبني الإطارات الفخمة، إذ قدرت أن الفخامة تنقص من جمالية الصورة، وتغطي على أهميتها، اخترت واحداً فضياً متواضعاً خالياً من النقوش..
حميت الصورة بطبقة غير مرئية من الزجاج.. صارت الصورة محط الأنظار أكثر من السابق.. وضعت البرواز والصورة واقفة على الطاولة وتأملتها بفخر.. ما زالت التفاصيل بهية توحي بأنها ستغادر الورق في أية لحظة، وزادها لمعان الزجاج تألقاً، كنت أتأملها بانتظام، بينما نسى وجودها على الطاولة، مما جعله يبري قلمه الرصاص بطريقة بدائية تشبه طرق أولاد المدارس الذين أضاعوا براياتهم، يكحته من أطرافه، ويسنه بواسطة شفرة عتيقة، قلت له إن خشب القلم الناعم يتطاير فوق الصورة، ويدخل بين الورق والبرواز.. سأل بتعجب: حقاً.. ؟ تناولت الصورة أحاول إزالة الخشب المبري، لاحظت تراكم الغبار فوق الزجاج.. مسحته ثم فككت الإطار أخرج خشبة عالقة في الزاوية، لاحظت أن الورق الصقيل اكتسب لوناً عاجياً في ظهر الصورة، قلت له إن الصورة بهتت، قال: حقاً؟؟ لحظت أيضاً أن هناك بثرة لا ترى بسهولة في قلب الورق، بدت نقطة بيضاء، حين أخذتها لمحل التصوير نظر بتمعن وقال لي إن الفطريات تصيب الورق أيضاً، حككتها ومسحت مكانها، لا شك أني انزعجت فقد أصبح الورق في المكان ذاته واهياً رقيقاً..
قلت: تبدو الصورة ممتازة ولكنها تحتاج إلى ترميم.. يمكنك اصطحابها إلى صاحبك الخبير في ترميم الكتب والمخطوطات.. نظر مندهشاً: ماذا؟؟ إنها مجرد صورة.. سيسخر مني.. إنها مجرد صورة! ربما، ولكننا لا نملك صورة في كمالها في ألبومنا العامر بالصور الضعيفة الباهتة، والشخوص المحنطين الواقفين وقفة زائفة بانتظار الفلاش، يزيح الصورة أحياناً إلى الخلف لوضع صحن المكسرات، ويبدأ في رمي القشر في صحن آخر خلفها، وقد يراكم علب الأدوية ودهان تنعيم كعب القدمين قربها مغطياً الجسدين الواقفين بحبور.. وأصيح منبهة: الصورة.. فيضحك..
يقول إني أعطي للصورة اهتماماً فوق المعتاد، مهووسة، قد يتوقف نبض قلبي إذا ما حدث خدش في تلك الصورة البديعة.. حتى أخيب ظنه وأوقفه عن سخريته اللاذعة بت لا أمسح الغبار المتراكم فوق الإطار والزجاج، على الأقل ليس وهو جالس في الصالة، ولا التفت بإعجاب إلى الوجهين الغارقين في الضحك، والجسدين الرشيقين اليافعين الطالعين من الورق، ولا امتدح الألوان ونسبة الضوء، ولا أتذكر، ولا أذكر بتاتاً اللحظة التي التقطت فيها الصورة. لقد رفعتها من الطاولة المحاذية للأريكة فوق التلفاز، حيث لا يمكن أن يضع منفضة السجائر، ولا صحن النقل، ولا علب الأدوية الفارغة..
وحيث لا يمكن أن تمتد ذراعه حين يثنيها تحت رأسه فتضرب الصورة من طرف إطارها العلوي، وتقلبها على قفاها.. في ذلك المساء الهادئ، كان الطفل يلعب بالكرة في الصالة، قلت : لا تلعب بالكرة هنا، أوقف الصغير، إنه يسمع توجيهاتك.. الصالة ليست مكاناً للعب الكرة.. قال بهدوء الميت: امنعيه.. لو استطعت!! لم أرغب في الكلام، صمت، وطارت الكرة من رأس حذاء الصبي اللاهي في فضاء الحجرة الضيقة، وارتطمت بقوة بالصورة محدثة صوتاً غريباً.. مطاط وزجاج وفضة وهواء.. تلا الصوت الزخم، انطلاق الكرة في فضاء الحجرة وارتدادها على الجدار المقابل، ثم سقوطها أرضاً، بينما هوت الصورة من أعلى التلفاز الذي يعرض مسلسل "باب الحارة"، ورغم أن التلفاز لم يكن عالياً، وكنت قد فرشت أرضية الصالة بالسجاد العجمي، إلا أن الصورة تهشمت، انخلع الإطار، وتحولت الواجهة الزجاجية إلى نتف سكرية وشظايا صغيرة مدببة، أما الصورة نفسها، فقد انقلبت وبان التجويف الذي تركته الفطريات مثل حفرة اتسعت قليلاً.. قال مؤنباً الصغير اللاهي: ستقتلك.. فهي تغضب كثيراً من أجل تلك الصورة. لم أغضب، ولم أعاتب الصغير، ولم أغادر جلستي، لن أضيع الفقرة التي تتحدث عن عنتريات "أبو العز"، نظر إليّ متعجباً.. ثم واصل مشاهدة المسلسل ليرى ما حل ب"سعاد خانم".. وانتظرت ريثما انتهى المسلسل، لممت نثار الصورة وبرواز الفضة وشظايا الزجاج بحذر خشية أن تجرح أناملي.. ورحت أفكر بما سيكون من أحداث تتبع في حلقة الغد، أما موقع الغضب والأمل في ذهني، فقد فرغ تماماً، استنفد بالتنقيط، تدريجياً، دون أضرار منذ زمن بعيد..
0
 
 

Post new comment