تفاؤل مفرط

ابراهيم غريبة

أتذكر ما قاله والدي أول ما ظهر التلفزيون عندنا: (هذا التلفزيون مثل الـ يتعشى بزر بطيخ.. تقضي معه أربع ساعات تا تطلع بربع ساعة مفيدة).. وقتها كان ما يبثه الراديو والتلفزيون الرسميان محور اهتمام الناس، أما الصحف فكانت للنخبة.. قريتنا كان يدخلها صحيفة واحدة يومياً لعناية السيد رشيد المحمود.. أما اليوم فكل أفراد عائلتي يتابعون الصحف والقنوات الفضائية ويتصفحون الانترنت كل على هواه وحسب ميوله، بانتقائية تنسجم وخصوصية كل واحد منا على حدة.. لقد صار التواصل اختياراً شخصياً.

أنا مثلاً عندما أفتح كمبيوتري أذهب فوراً لمقال أحمد حسن الزعبي، وكاريكاتير حجاج، وأتابع تعليقات القراء.. في السياسة أقرأ تحليلات محمد خروب وفهد الخيطان وتلميحات احمد أبو خليل.. ثم أعود لأقرأ لانا مامكغ ورمزي الغزوي وأبحث عن عدسة جهاد جبارة..

بفضل سهولة التواصل الحديثة؛ تتقلص المسافة بين المبدع والمتلقي، ويتفاعلان معاً، بل يظهر بين المتلقين مبدعون جدد، لهم حضورهم المواظب وبريقهم الخاص.. ويصير التواصل عبر وسائط الميديا شخصياً أكثر.

بفضل المواقع التفاعلية صار الحوار مجتمعياً. أنيساً. ومؤنساً.. إنهم وهم يكتبون بأسمائهم المستعارة أو الصريحة يشاركوننا مائدتهم.. أنا شخصياً مدين لهؤلاء الأصدقاء الحميمين الذين لا أعرفهم.. فقد تأثرت بثقافة (زهرة) العميقة ورؤاها الثاقبة.. واستفدت من حصافة (أبي العباس)، وفرحت بتشجيع (غزلان). وأخذت بملاحظات (معاذ). وتواصلت مع شفافية (أم محمد) التي يعاني محمدها من "التوحد".. كلنا نعاني من التوحد يا أم محمد، وما كنا لنبتسم، لولا نعمة التواصل مع أطياف رحيمة بنا نعرف رفيفها ولا نعرفها.

لقد حلت الثقافة المجتمعية محل الثقافة الجمعية؛ هاهي الكلمة تنزل من برجها العاجي لتصير في متناول جميع الناس. ليس النقاد ولا المفكرون ولا وزراء الإعلام هم من سيغيرون المعادلة الإعلامية؛ بل ذاك الرجل العادي ببجامته المقلمة الجالس مع إبريق الشاي، وتلك المرأة بقميصها البيتي ذي الفراشات الصغيرة المنشغلة بتقميع البامياء، وهذه البنت بالبكلات الفضية الخاتلة مع هاتفها الخلوي، والولد ببلوزته الرياضية الذي يبحث عن أخبار فريقه المفضل؛ هؤلاء هم من سيميزون القمح من الزوان، وسيوجهون شاشاتهم إلى حيث يبتغون.. وعلى من يريد أن يربح الجولة أن يشعر بنبضهم.

يوماً بعد يوم أكتشف أن مستقبل تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة سيسحب الهيمنة الإعلامية من يد الرقيب، وسيضعف وسائل السيطرة التي يوجهها (الأخ الأكبر – حسب تعبير جورج أورويل)، وسيتراجع تأثير الإعلام الموجِّه للـ(قطيع)، وتغيب (بروبغندا غوبلز) التعبوية ذات الطابع المركزي، وسيصبح الممسك بزر التحكم شريكاً في صنع القرار.

يوما بعد يوم يصير الإعلام أقرب إلى الموضوعية، ويصير التواصل شخصياً أكثر.. أي أن الفرد هو الذي يذهب لقراءة المقال الذي يحب، ويبحث عن التحليل المقنع، والصورة التي تمتع. مشيحاً بشاشته عن كل ما يريبه، أو يفرض عليه رأياً.. فزر التحكم سينقله من عالم إلى عالم آخر قبل أن يرتد إليه طرفه. فيختار البرنامج والمسلسل والفلم والخبر والكتاب والأغنية اختياراً حراً لا إكراه فيه.

بفضل التكنولوجيا الحديثة سيتراجع يوماً بعد يوم الكم لصالح النوع، وستتراجع الهشاشة لصالح الجودة، ويتقدم الصدق على الكذب، وستبدد الشفافية سحب التظليل والخداع، ويدحر الإبداع ضجيج التطبيل والتزمير.

يوماً بعد يوم يتقدم المبدعون ويتراجع المدّعون.. 

0
 
 

Post new comment