هذا الكتاب

خليل ابراهيم

وشعر درويش أقربُ للغناء، والموسيقي، من أيّ شيء آخر. فهو عازفٌ ومغنٍّ. تتكدس ظلال المعاني في شعره على أجنحة الإيقاع تارة، وعلى أجنحة الخيال تارة. يتَّحدُ في مراثيه، وأغانيه، المجازُ بالأسطورة بالصورة. والتراث الذي لا يكرِّرُه، بالإبداع المبتكر الذي يعيدُ خلقه خلقا جديدًا، فهو لا يطمئنُّ – أبدًا- للأصوات المستعارة. فالصوت الشعري القديمُ يذوبُ في صوته مثلما يذوب السّكـّرُ في فنجان من القهوة . المذاق في شعرهِ، والنكهة، مألوفان مرة، وغريبان مرة.. كالماس في غموضه؛ لامعٌ، وشفافٌ، يبهرُ القارئ دون إيغال في التفاصيل: ربابة الراعي، وَشَجْوُ الناي، وعزف جيتار متجول،وموسيقى الكمنجات، جلّ ذلك مزيجٌ يراوحُ بيْن مقام النَّهاوَنـْد، والسوناتا، والكونشرتو. موسيقى عجيبة، وغنيّة، وثريّة، تلك التي تجْمَع النقائض المتنافرة، كالماء والنار، أو النبيذ وقوس قزَح.

نرنو إلى كلماته وهي تتألق كالألوان في فضاء الصورة: الأبيضُ، واللازورديّ، والأخضر، والأزرق؛ دلالاتٌ تصخبُ تارة بالحب، وطورًا بالألم، وطوْرًا ثالثا بطعم الفراق اللاذع كالنعناع، الحادّ، المسنون، كما الشّفْرة. فدرويش، الذي احترفَ التعبير الكاشف عن الحقيقة " الجوانية "، يتعهَّد قصيدته مثلما يتعهد فلاح فلسطينيٌّ شجرة زيتون؛ تبدأ فسيلة، ثم غرسًا، ثم شجرة، تؤتي ثمارها في نهاية المطاف، فتتوالد قصيدته طوْرًا بعد آخر، حتى تستويَ على "عرْشها " نَصّا كاملا، مكتملا، كبرتقالة للرجوع، أو تفاحة للمغفرة.

يرثي، ولكنه لا يؤبّنُ، يبكي، ولكنّه يُحَرِّضُ، يخاطب أصدقاءه ألا يموتوا، لأنَّه لنْ يقول في رثائهم كلمة. لقد خانوهُ، ورحلوا. مع ذلك يقول في إدوارد سعيد ما لم تقله الخنساء في صخر، وما هو أكثر من الكلمة، وأكثرُ وضوحًا من الهويّة. هذا هو محمود درويش، الذي عرفناه، شاعراً يرودُ بالشعر العربي بقعة مجهولة، غامضة، ويشقُّ للقصيدة طرقاً، ومساربَ، كانت عليها محظورة، فارتقى بها من المحليِّ إلى العالميّ، ومن التقليديّ إلى الحَداثيّ، وهذا حسْبُه.

0
 
 

Post new comment